تجردت من مخيط الأفراح، وتجللت برداءٍ نسجته خيوط الدمع.. فبدا من الجوى أسوداً...
ثمة ذاكرة ترتعش بين أثواب النسرين الحزينة... تحترق... إلى أن انسلخت من عطرها واغتسلت بأنوار الحسين...
عذراً سيدي... يا كعبة الأشواق... يا "كهيعص"... يا "والفجر وليالٍ عشر"، وسورة الكهف والحج والإخلاص... عذراً لجفاف أصابعي من أمارات الحياة، وأنت نهر الضوء المتكوثر... لانطفاء العنفوان من عينيَّ، وأنت ابتسامة الورد في عمق انتشاء الربيع... لملامحي المفقودة ولغتي الذائبة في الوحل والعجاج، وأنت للقرآن لغةٌ ثانية، وللجمال معنىً فريد...
جئت إليك، أستجدي من تضحياتك لغة المطر والياسمين... ومن صلابتك وتسليمك إكسيراً يأسو جراح الروح... ومن يدك التي مسحت على رأس سكينة، لون التسنيم والرحيق المختوم... لعل وجهي الرمادي الخالي من الألق ينطق بقطرةٍ من نَداك الزجاجي الذي تتهادى على صفحاته رائحة الجنة...
جئتك أطوف في مدارات ذكراك، حول محور حبك... وأصلي نافلةً موشّاةً بأمنية البقاء معك... وأسعى بين وجلي من سوادي وتطلعي إلى نظرة عناية من عينيك النابضتين بلون الفرات... وأسكب بين يديك تقصيري...
وا أسفاه على نفسٍ بعثرت أشلاءها بعيداً عن دهشة صداك.. فغدت نقطةً بكماء في صحراء الخطيئة... ولم أجد إلاك على مشارف واحة الأمل، فاقبلني يا حبيب الروح... يا رحمة رب العالمين... يا سجدة صلواتي اليتيمة، وعبرة مناجاتي المتوضئة ببحة الرجاء...
وهاك أناملي الصغيرة الموبوءة بالصخب، المتشبثة بشباكك... لعلها بدفء قلبك المخملي تورق فجراً، وتنبت زهرا...
ضمني عندك، وامسح دميعاتٍ حائرةٍ تبحث عن الوطن فيك، ودعني أرتشف حكاياك... وأنتشي بصور ذكراك... تحت كل قطرة دمٍ نثرتَها على الثرى، ذاكرةٌ مصاغةٌ بحروف النور... ومن كل قطرةٍ، تتشظى أحرف القرآن تبراً، لتصعق عجل السامري إلى الأبد...!
نحر الرضيع.. ودمه الذي تلقفته السماء قبل أن تميد الأرض بمن فيها... وكفا العباس اللتان تعانقان الهواء كجناحي نورس... وهامة الأكبر الشماء، التي تتحدى الموت بنور الحقيقة... وقوام القاسم الغض الذي أضاء رغم الجراح... وذاكرة الأحزان التي تمور في قلب زينب المشحون صبراً... وغربة مسلمٍ في مقبرةٍ حبلى بوجوهٍ جامدة... واستفاقة غيمةٍ حاكها الأنصار، أمطرت دماً يحيي الأرض بعد موتها... وانتفاضة السجاد من آلامه ممزقاً أكفان السراب... ولحيتك المخضبة بماء التضحية... ورأسك الذي لم يثنه سيف الشمر عن نثر عطر كتاب الله في الأجواء... وقلبك الممتلئ وجعاً على أمَّةٍ توشحت بالأقذار، لم يخمد المثلث نبضه الحي إلى يوم القيامة... لكل تلك الصور في لوحة الطف قصةٌ عميقة المعاني...
وكل عامٍ... بالدمع نرمي يزيداً... ونحيي عرفة بندبك في العشر صباحاً ومساءً...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق