الأحد، 25 ديسمبر 2011

جَنَـــاحُ جَبْرَائِيـــــلَ

جَناحُ جبرائيلَ مشرَّعٌ على عينيّ فاطِمة...!
والمُصابُ يَخْنُقُ الْمَسافاتِ بَيْنَ نَبَضاتِنا... يَخْتَزِلُ أَوْجَاعَ الدَّهْرِ في لَحْظَةِ الْعُرُوج...!
وَعَلى أَطْرَافِ الذِّكْرَى، قَلْبٌ أَرْهَقَهُ الْوَجْدُ... يَتَعَلَّقُ بِـ أَنْوَارِ الْجَنَاحِ...يَحْفِرُ جَوَاهُ بَيْنَ جَدائِلَ أَشِعَّتِهِ الْمٌبَلَّلَةِ بِالْعَبَراتِ... فَتَنْبَثِقُ مِنْ بَيْنِ الضُّلُوعِ حَرَارَةٌ لِنْ تَبْرُدَ أَبَداً، كَانْكِشَافِ كُنْهِ الدَّمِ عَلى حَوافِّ الْمُرْهَفاتِ... لَعَلَّ تِلكَ الحرارَةِ تَصْعَدُ مَعَ تِلْكَ الْجُمَاناتِ الْحَمْراءِ المُتَلألِئَةِ إِلَى السَّمَاءِ، لِتُبَلْسِمَ قَلْبَ الزَّهْرَاءِ...
سَيِّدِي حِينَ هَوَيْتَ فإِنَّما هَوَيْتً عًلى كَفَّيَّ... وَدِماؤُكَ النَّوْراءُ هَوَتْ جَمْرًا عَلَى قَلْبِي...
وَتَساقَطَتِ الْقَطَرَاتُ... وَبِهَا تَسَاقَطَتْ أَشْلاءُ الدَّمْعِ مِنْ ذَلِكَ الْجَنَاحِ، فَنَقَشَتْ نَغَمَ اللَّقَاءِ الْمَصْبُوغِ بِالْقَاني عَلَى وَجَنَاتِ رُوحِي...
سَيِّدي.. حِينَ عانَقَتْ يَدَاكَ السَّمَاءِ، اسْتَفاقَتْ لَوْحَةُ الْمَطَرِ مُبَلَّلَةً أَطْرَافَ نَافِذَتِي... فَفَتَحْتُ عَيْنَيَّ، لِيَتَقَمَّصَ وَجْهِي حَكَايَا الْفَجْرِ مِنْ آيّاتِك، وَوَجْهَ اليُتْمِ وَالأَلَمِ مِنْ جَنَاحِ جَبْرائِيلَ...
وَحِينَ وَارَى الجَناحُ نَظَرَ الزَّهْرَاءِ، تَكَسَّرَتْ حُرُوفُ الْحِكَايَةِ وَسَقَطَتْ عَلَى أَجْفاني... إِذْ حَصَلَ خَطْبٌ أَوْقَفَ قَلْبَ الزَّمَنِ مِنَ الرَّوْعِ، فَلَمْ يُفِقْ إِلَّا بِقَطَرَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ، تَسْقُطُ عَلَيْهِ مِنْ عَلَى رُمْحٍ طَوِيلٍ... خَطْبُ ما رَأَتْهُ الزَّهْراءُ... لَكِنْ... رَأَتْهُ زَيْنَبُ بِأُمِّ العَيْنِ...
عَجِيبٌ أَنْتَ... عَلَّمْتَ السَّمَاءَ معْنَى الاِحْتِواءِ، وَالْبَحْرَ فَنَّ الْمُنَاجَاةِ الْهَادِئَةِ، وَالثَّوْرَةِ الْعَاتِيَةِ، وَحِيَاكَةِ تَسْبيحَةِ السَّحَرِ مِنْ لُجَيْنِ الْقَمَرِ... حَتَّى الْفُرَاتُ، رَآكَ سَمَاءً تَفُوقُ السَّابِعَةَ وَلَكِنْ بِلا نِهَايَة...!
لِأَنِّي فَقَدْتُ حِبْرِي وَدَوَاتِي، وَلِي فِي ذَاكِرَةِ الْمَاءِ قَصِيدَةٍ خَاوِيَةٍ... بِلَوْنِ التُّرَابِ... فَهاهِيَ رُوحِي تَتَطَلَّعُ إِلَى نُورٍ وُلِدَ مِنْ رَحِمِ الصَّلَاةِ... تَوَدُّ الْاِرْتِمَاءَ فِي جَمَالِهِ الْعَسْجَدِيِّ، وَالذَّوَبَانَ فِي عِشقِهِ كَفَقاقيعَ من الدَّهشَةِ... وَكَقِطَعٍ مِنْ ذَاكِرَةٍ خَزَفِيَّةٍ تَوَدُّ التَّلاشِي فِي الذِّكْرَى الدَّامِيَةِ...
يا دَوْحَةَ الطُّهْرِ وَالتَّسْليمِ، وَمَنْبَعَ الإيمانِ وَالصَّبرِ... قَصَدْتُكَ أَتَسَلَّقُ ضِياءَ الْفجرِ إَلِى غَيْماتِ السَّماءِ، لَعَلَّ جَناحَ جَبرَائِيلَ يَحُنُّ عَلى بَقايَايَ، وَيَنْتَشِلُني وَيَطِيرُ بي إِلَيْكَ، فَلَسْتُ أَجْسُرُ عَلى الطَّيَرانِ حَيْثُ أَنْتَ... وَهلْ لِمَنْ تَلَطَّخَتْ بِالذُّنُوبِ طاقَةٌ علَى فَرْدِ جَناحَيْها، فَيُلامِسانِ الْهَوَاءَ بِكُلِّ أَرْيَحِيَّةٍ؟...
فَيا أمَلي تَحَنَّنْ عَلَيَّ، وَتَلَقَّفْنِي لِأّقْطِفَ النُّورَ مِنْ رُوحِكَ الطَّيِّبَةِ، لَعَلَّ رُوحِي تفيقُ من سُباتٍ عَميقٍ... واسكبْ رَحيقَكَ النَّدِيَّ على أوتارِي المُتْعَبَةِ منَ الركْضِ في أَزِقَّةِ الشِّتاءِ، الْمَكْسُوَّةِ بِصَقِيعِ الاِغْتِرَابِ...
سَيِّدي... أَبا عَبْدِ الله... جِئْتُكَ أَتَوَكَّأُ عَلى أَصابِعَ شَلَّتْها الخَطايا وَأَضْعَفَتْ قِواهَا... فَأَحْيِها بِفَيْضِ خُنْصُرِكَ الْمَبْتُورِ... جِئْتُكَ أَتَوَسَّلُ بِجَناحِ جبرائِيلَ... لِتَمْسَحَ عَلَى قَلْبِي بِأَنامِلَ يَنْهَلُ الْوَرْدُ مِنْهَا عِطْرَهُ، وَتَسْتَنْطِقَ كَيَانِي الْجَامِدَ بِرَنِينِ هَيْهَاتِكَ...
سَيِّدِي.. لَعَلَّ سُطُورِي وَجَدَائِلَ حِبْري تَبْدُو كَالْهَذَيَانِ... جُمَلٌ تُخَاطُ إِلَى بَعْضِها كَخِرْقَةٍ مُرَقَّعةٍ بِأَلْوانٍ لا صِلَةَ قُرْبَى تَجْمَعُهَا، وَبِغَيْرِ اعْتِناء... لَكِنْ كُلُّ ما أَعرِفُهُ وَأَعِيهِ أَنَّ قَلْبي بِحُبِّكَ يَخْفِقُ، وَبِذَلِكَ الخَفَقانِ يَحْيَا...
وَحَتَّى الآن... تَرمقُ روحِي السَّماءَ بَحْثًا عَنْ جَنَاحِ جَبْرَائِيلَ... لِتَرْتَمِي بَيْنَ أَحْضَانِهِ، وَتَسْكُبَ آلَامَ فِرَاقِ الْحَبِيبِ، وَتَرْسُمَ بِخَفَقَاتِ الْعِشْقِ فِي الْهَوَاءِ غُيُوماً مِنَ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ، يَتَنَفَّسُهَا الْمَطَرُ...

الأحد، 27 نوفمبر 2011

حجٌّ عاشورائي

تجردت من مخيط الأفراح، وتجللت برداءٍ نسجته خيوط الدمع.. فبدا من الجوى أسوداً...
ثمة ذاكرة ترتعش بين أثواب النسرين الحزينة... تحترق... إلى أن انسلخت من عطرها واغتسلت بأنوار الحسين...
عذراً سيدي... يا كعبة الأشواق... يا "كهيعص"... يا "والفجر وليالٍ عشر"، وسورة الكهف والحج والإخلاص... عذراً لجفاف أصابعي من أمارات الحياة، وأنت نهر الضوء المتكوثر... لانطفاء العنفوان من عينيَّ، وأنت ابتسامة الورد في عمق انتشاء الربيع... لملامحي المفقودة ولغتي الذائبة في الوحل والعجاج، وأنت للقرآن لغةٌ ثانية، وللجمال معنىً فريد...
جئت إليك، أستجدي من تضحياتك لغة المطر والياسمين... ومن صلابتك وتسليمك إكسيراً يأسو جراح الروح... ومن يدك التي مسحت على رأس سكينة، لون التسنيم والرحيق المختوم... لعل وجهي الرمادي الخالي من الألق ينطق بقطرةٍ من نَداك الزجاجي الذي تتهادى على صفحاته رائحة الجنة...
جئتك أطوف في مدارات ذكراك، حول محور حبك... وأصلي نافلةً موشّاةً بأمنية البقاء معك... وأسعى بين وجلي من سوادي وتطلعي إلى نظرة عناية من عينيك النابضتين بلون الفرات... وأسكب بين يديك تقصيري...
وا أسفاه على نفسٍ بعثرت أشلاءها بعيداً عن دهشة صداك.. فغدت نقطةً بكماء في صحراء الخطيئة... ولم أجد إلاك على مشارف واحة الأمل، فاقبلني يا حبيب الروح... يا رحمة رب العالمين... يا سجدة صلواتي اليتيمة، وعبرة مناجاتي المتوضئة ببحة الرجاء...
وهاك أناملي الصغيرة الموبوءة بالصخب، المتشبثة بشباكك... لعلها بدفء قلبك المخملي تورق فجراً، وتنبت زهرا...
ضمني عندك، وامسح دميعاتٍ حائرةٍ تبحث عن الوطن فيك، ودعني أرتشف حكاياك... وأنتشي بصور ذكراك... تحت كل قطرة دمٍ نثرتَها على الثرى، ذاكرةٌ مصاغةٌ بحروف النور... ومن كل قطرةٍ، تتشظى أحرف القرآن تبراً، لتصعق عجل السامري إلى الأبد...!
نحر الرضيع.. ودمه الذي تلقفته السماء قبل أن تميد الأرض بمن فيها... وكفا العباس اللتان تعانقان الهواء كجناحي نورس... وهامة الأكبر الشماء، التي تتحدى الموت بنور الحقيقة... وقوام القاسم الغض الذي أضاء رغم الجراح... وذاكرة الأحزان التي تمور في قلب زينب المشحون صبراً... وغربة مسلمٍ في مقبرةٍ حبلى بوجوهٍ جامدة... واستفاقة غيمةٍ حاكها الأنصار، أمطرت دماً يحيي الأرض بعد موتها... وانتفاضة السجاد من آلامه ممزقاً أكفان السراب... ولحيتك المخضبة بماء التضحية... ورأسك الذي لم يثنه سيف الشمر عن نثر عطر كتاب الله في الأجواء... وقلبك الممتلئ وجعاً على أمَّةٍ توشحت بالأقذار، لم يخمد المثلث نبضه الحي إلى يوم القيامة... لكل تلك الصور في لوحة الطف قصةٌ عميقة المعاني...
وكل عامٍ... بالدمع نرمي يزيداً... ونحيي عرفة بندبك في العشر صباحاً ومساءً...

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

ميــــلادٌ جـــديــــــد




لذاكرة الورد على شفتي الرجاء لغة الخريف الموشى برائحة الربيع حين تذوب ألوان عنفوانهما في ماء الحنين...

تلك لوحة تختزل أحاسيس متناغمة تتساقط على خلايا الروح رذاذاً ناعماً يؤجج الشوق إلى الملكوت... فلملمت أشلائي التي توضأت برحمة الله، وحملت على كفي قلبي الذي اغتسل بالأمل وارتدى أوراق النسرين المعطر بالتوبة...

تنهش روحي في صم الصخور بحثاً عن نور الحقيقة، لعلها تنهل من زمزم الحب الإلهي وتروى بكأسه الأوفى...

وعلى وقع التلبيات، تعزف خفقات الفؤاد سمفونية الانعتاق، والهجرة إلى الله!

تنتفض روحي مع خفق أجنحة الحمام المجللة بأمان ربي المنساب على تلك الأرض الطاهرة لتطالها كل الممكنات... وهناك، نثرت آلامي التي بح صوتها، وبعثرت اختلاجاتي ملء فضاءات الياسمين... وشاركتني الحمائم طقوس الولاء والرجاء، مثلما شاركت كل من تبركت أقدامه بأريج تلك البقعة المباركة...

سبحان الذي طافت له القلوب لتتجلبب بالولاء... وارتحلت له الدموع بين الخوف والرجاء...

وفي عمق مرآة تجسد لغة ذوبان بين عبدٍ ذليل، وربًّ جليل، يرتعش نغم العبرات، فتتبعثر أحرفها مبللةً صفحاتٍ من الذكرى منسوجةً من غلائل الورد والرياحين، مطرزة بالدعاء والمناجاة... في تلك الصورة تلاشى لون الخطايا، وتيبست المعاصي وتساقطت.. بعدها اخضرت القلوب، وأزهرت ياسميناً نديًّا بقطرات غفرانٍ جادت بها غيوم عرفات...

وعندما تلمع حبات اللؤلؤ في الهواء، تقرع السماء أجراس الرحمة، ليخرج الودق فيسقي بالتوبة والطهر مجامع القلوب... كلما تنطلق في الآذان معزوفة اللؤلؤ، حتى تلامس من الروح الشغاف، تتيبس ذاكرة الخريف في رمس أبجديةٍ غضة...

ارتمست الروح في تحنان ربها، وها هي تعود إلى إهابها بيضاء ناصعة، تحمل أكاليل من وردٍ ونسرين، لتنثرها على مثوى الأطهار قطرات من ولاء...

السبت، 20 أغسطس 2011

وداعاً يا أبتاه


ونعاك جبرائيل...
فانتفضت الملائك من صمتها تتشبث بجدائل نور العرش، وتنسج من نضارها غيوماً مثقلةً بالحزن.. تذرف دمعها على روحك رحمات من الرب... إذ كنت أول شمسٍ ترقرق زلالها على قلب رسول الله، وأول وأزكى نفحة إيمانٍ تتراءى على خارطة الملكوت كأنها اللؤلؤ المكنون...
الفجر يغزل وِرده من سجدتك المخضبة برائحة الفراق... وليلة القدر ارتدت ثوب الحداد.. وفي محرابك سالت صلاة العاشقين مع دمائك... وكلمات القرآن بك تتشبث، وتستغيث.. وإلى الله ترفع شكواها...
تلك الإوز تعالى عجيجها بأن "لا ترحل"... لكنك رحلت إلى ربٍّ كريم.. وتركت قلوباً يمتزج فيها الألم بالصبر والتسليم، تخفق بين ضلوع حسنٍ.. وحسينٍ.. وزينب... وخلَّفت أيتاماً تتنفس الآهات مع الهواء... فيا أبانا تلطف علينا بمسحةٍ من كفك تجلبب أرواحنا بالأمان...
اليوم... أصبحتَ سورةً يتلوها بلغة البكاء كل يتيمٍ على وجه البسيطة...
كنت يا أميرنا الضوء الذي جرح القحط في أرواح الأشهاد... ووأد الظلام في رمس الذاكرة.. في حين كانت قلوب الناس من حولك موبوءةً بالضعف، محمومةً بضجيج الخوف... وحنانك كان أرجوحةَ سلامٍ اعتلتها القلوب المكدودة... وابتسامتك وردةً طيبة العبير، ارتوى من رحيقها الظمايا...
كنت للكافرين ناراً حامية.. وللمؤمنين برداً وسلاما... وكنت شمعةً تزدان بنور الله، وتاجاً على رؤوس من امتحن الله قلوبهم للتقوى... كان قنوتك قطرات ندىً تطير في دهشة النسيم، ومنطقك درراً تسبح في أنهارٍ من عسلٍ مصفى... ويقينك مرآةً تعانق أشعة الشمس المتدلية كخيوطٍ ذهبيةٍ متقنة السحر...
فطبت يا أمير.. وطابت أرضٌ تشرفت باحتضانك كما احتضنت اليتامى... فقد أطفأ ماؤك الفرات نار الغواية.. واستقى الدين من تضحياتك لون الصباح ومذاق العنفوان... وأشرق بك نور الله ولو كره الكافرون... ثم... رحلت... فأتعبتَ قلوباً اغتسلت بعشقك الدافئ...
لعمري إن مصابك يفوق حد البكاء... ورزيتك زلزلت أركان السماء وطمست نجيماتها الحزينة... وفراقك هد قلوب الأنام.. فإنا لله وإنا إليه راجعون...
/
أيا رب إنك تقضي ما تشاء... فألهمنا الرضا والتسليم... وأفرغ على قلوبنا صبراً بفقد أبينا... ربِّ قد جمعت عليًّا بحبيبه... فاجمعنا بهما وبآلهما، وثبتنا على ولايتهم... وأمطر علينا توفيقاً لطلب ثأرهم مع إمامٍ هدى...

الاثنين، 13 يونيو 2011

ألمٌ يخط الفصل الأخير




هناك.. على امتداد الحكاية... يلتمع بريق الدمع على وجنات الورد، ليكتب أحداث الفصل الأخير بحبرٍ ملوثٍ برائحة الدخان الممتد بين مجرات الطين والماء، وذلك قبل أن يحفر مداد الشمس على قرطاس الزمان أحرف كلمة "النهاية"، العابقة بالأمل الأخضر، المضمخة بالسعادة الوردية.. الناطقة بألف معنى ومعنى مع كل قطرة حبر...


صدى الأسود بأوجاعه يتكسر في غيابة الودق الأحمر... والأحمر عصافير حطت على ضفاف السماء، تنشد دفء الربيع في ترقبها للشروق... صوتها يحيي الأرض وهي مواتٌ مثخنةٌ بأمواج الضباب العاتية... هي امتداد تلك الواعية المقدسة العابرة طيات ذاكرة الروح... يتخلل رحيقها المسافات بين كربلاء – كعبة العاشقين – وبين القلوب الملبية الطائفة حولها طواف الهيام... ليمتد مفترشاً الكرة الأرضية إلى أن تشرق الشمس، فتشرب كل قارة.. وكل بلد.. وكل محيط، من نورها كأساً دهاقاً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم...


وفي زاويةٍ أخرى من الحكاية، تئن زهراتٌ صغيراتٌ على أغصان الدهر.. خائرة القوى.. ذابلة المحيا.. لم تذق قطرة مطر.. تكبر بين أشواك الأسى والانتظار.. فمنها ما تذوب حياتها على غصنها، حتى تتلاشى وتصبح نقطةً صماء على خارطة الإمكان... ومنها ما تتشبث بأذيال الرجاء حتى الرمق الأخير، وتستقي من ماء الشمس رشفاتٍ صغيرةٍ كي تحيا وتزهر بوجهٍ مختلف...


وهناك.. بين مساحاتٍ تتأرجح بين الأرض والسماء، تتربع وجوهٌ هلامية، مبهمة الملامح، متغيرة القسمات بين متاهات النور والظلام... أجزاؤها خيطت إلى بعضها بخيوط العنكبوت... قد نضب منها عذب الرواء.. تتطلع من بين الغيوم إلى جدائل ذهبيةٍ من التحنان تنساب من قلب شمسٍ متوهجةٍ بكل ما تسعه الأكوان من رحمة...


حرفاً حرفاً.. ترمي العبرات حكاياها بين السطور.. وكل سطرٍ له من الحزن لونٌ مختلف... وإذا بالفصل الأخير يملأ من الدهر مجلدات ومجلدات...


وبين السطور الأخيرة... أرواحٌ تحاول الانتفاض من السديم الأسود المحيط بها... لعلها تستطيع بعدئذٍ أن ترتمس في طهر الفرات، وترتدي إحراماً أبيضاً... ثم تمسك بأطرافٍ ذهبيةٍ قد نزلت إلى الأرض بعذوبةٍ ودفء.. من شمسٍ قد غطتها السحب.. نورها يجرح الألم لتسقط بعد ذلك أشلاؤه من كتاب الحكاية إلى التراب...

الاثنين، 6 يونيو 2011

رشفة سلام




باسمك تطرب أجنحة الروح، ملقيةً بين يديك تحاياها قافيةً مرصعةً باللجين، وآيات ولاء... أيا شمسٌ طالما تلمس الدهر دفء مودتها وتحنانها، رغم تلكم السحب التي تغطي شعاع النور الفائغ من قلبك الذهبي، وتختزل في جوفها رماد الغياب...

سلامٌ.. على آل ياسين... سلامٌ عليك أيها النور الساطع، والتبر الألِق...

دعوتَ إلى الله، فتجلت آياتك تجلي البدر في ليلة تمامه... وتفتحت، كانفراج أسارير الورد حين يشرق على غلائله الربيع... فتشظى نداك ليجلو القحط الساكن أرواحنا، والمتربع بين خلايانا.. وأصابعنا...

سيدي.. أنت بابٌ إلى الله منفرج الثنايا.. تقودنا إلى منبع الضوء، وتهز إلينا بجذع الرحمة يساقط علينا من فيضك لؤلؤاً منثورا... وعلى كل زاويةٍ من زوايا الدهر، تنثر من عطر روحك قبساً تستضيء به حمائم السلام...

سيدي... يحن إليك الليل الداجي... يناجيك القمر بلغة اللجين، وتلثم النجوم آثار خطواتك المباركة نحو الله...

وبوح الفجر تربٌ يركع على أطراف تبرك الزاهي.. إذ تبتكر شمسك انبلاج النهار.. ويتساقط الضوء على أديم الأرض مطراً، تجدل منه الفراشات خيوط ريحانٍ تتنفس منها قلائد العبير، وتصوغ منه العصافير خارطةً للملكوت يرفرف شطره بهديها جناح الحنين...

ما زلتَ – يا ربيع القلب – شمعةً تنث آياتها رقراقةً كقيثارةٍ من ماء تنسج لحناً عذباً تهيم بوقعه أوتار الفؤاد.. صلاتك جنةٌ خضراء يزهر حب الله في سمائها، ويشع الشكر والتسليم من حناياها كزخات الرحيق المختوم بالمسك والياسمين...

قنوتك عزفٌ أبيضٌ فاح عطره فوق كنه تلك الحروف العسجدية...

ركوعك ارتعاش اللغة في حضرة الملكوت الأرفع...

سجودك توحد الخلايا مع جوهر النور، واغتسال الروح بقطرات العشق الوردية...

ثناؤك واستغفارك تسامقٌ فوق الكلمات، يفوق البيان والاستعارات في التأثير...

حين تقرأ ترهف لعذب صوتك الثريا، ولتبيانِكَ عطرٌ عسلي المذاق، يهتز على وقعه الزهر... وفي تكبيراتك تتجلى العبودية المطلقة لرب العالمين...

يستاف مخاض الصبح من ضيائك عبيراً محمديًّا... وارتعاشات المساء تستقي من جمالك مطراً لؤلؤيًّا رياناً... وقلب الدهر صار وطناً للشوق والآهات والدموع... وكل الزوايا تشرئب لطلعتك الغراء.. تترقب هطول شمسك المشرقة من وراء السحب...

فسلامٌ عليك.. في الليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى...

سيدي... متى تشرق الأرض بنور ربها بظهورك؟... متى ترانا سيدي ونراك؟!...



/



طيف من شعبان الماضي

أحلم.. بأن أطير



حتى متى وعصافيري تنأى عن عالمي، وتستفرد بأغاريدها العذبة من دوني؟.. حتى متى أنظر إليها بحسرة وهي تسرح وتمرح، وأنا على أديم الأرض مكسورة الجناح، ذائبة الفؤاد، أخنق دموعي كي لا تلتهمها العيون؟... حتى متى يظل طيراني معها مجرد أمنية تؤرق هدوء حياتي؟..
أمنية كالزبد، في نعومته وبياضه... في رقته وجماله... حتى في ذوبانه في ذاكرة البحر، حتى يختفي ويتلاشى... تلك هي أمنيتي.. تذوب في ذاكرتي، حتى تختفي... ويبقى أثرها وخزاً مؤلماً في لبّة الفؤاد...

طيفٌ لم ير النور.. ولم يتجسد واقعاً أتلمسه بأنامل ربيعي الشفافة، وأستأنس به استئناس الورد لقطرات الندى... أحلم بأن أطير.. أطير... أطير... أمسك أجنحة عصافيري بأجنحتي... وأطير... ولست أدري متى يرى حلمي نور الواقع... وأطير...

صرت أتشبث بأطراف البراعم الصغيرة المتدلية على أجنحتي المخضلة بألم دفين، وخوفٍ ورجاء.. أتنسم بنهمٍ وسرور عبيرها الخفيف... لأن أجنحتي دامية... مكلومة.. لا تطال الأزاهير الغضة الفواحة السارحة بين الغيوم البيضاء...

ليت يوم الفرج يشرق، فتنبت لي أجنحةٌ من وردٍ ومطر، فأحلق مع عصافيري.. وتسبح أجنحتي معها في سماءٍ ملونةٍ بالأريج.. مرصعةٍ بحبات أملٍ ذهبية... وتصب السعادة ودقها على جراحي فتدملها، وعلى كسري فتجبره... وأقطف تلك الأزهار المتربعة وسط الغيوم البعيدة، وأزرعها أملاً يزدهر ويتألق في جنتي، وأزين بها أجنحتي.. وأستاف عطرها الوردي العبق الناضح برقةٍ ودفءٍ، وهو يعانق الأفق والنجوم...

ليت شمسي تبزغ، فأفرد أجنحتي بثقة الجبال بين أغاريد عصافيري.. وأنثر أنشودتي على الغيوم قطراتٍ من الياسمين... وأصوغ من مدادي وعبراتي سجدات شكرٍ أطلقها في محراب صلاتي...
فيا طيور السماء.. هلمي إلي، وأمني على دعائي...!


/


من فتات الماضي القريب

الأحد، 5 يونيو 2011

الكهف.. مرآة كربلائية


"أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آياتِنَا عَجَبَا"...
وَآياتُكَ يَا حُسَيْنُ أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ...
مِيقَاتُ أَهْلُ الْكَهْفِ كَهْفٌ يَخْتَرِقُ حِجَابَ الزَّمَنِ..
وَمِيقَاتُ آلُ اللهِ حَقِيقَةٌ أَليمَةٌ تَلْهَجُ بِهَا سُورَةُ مَرْيَمَ... تَخْتَبِئُ في (كهيعص)...
كَافُها كَرْبَلاءُ... الجَنَّةُ الَّتِي تَتَجَلَّى فِيهَا الْهَاءُ صُوَراً مُوجِعَةً حَدَّ انْطِبَاقِ السَّماءِ عَلَى الْأَرْضِ... وَهَلَاكُ الْعِتْرَةِ أَعْظَمُ مُصِيبَةٍ حَفَرَتْهَا يَاءُ دِقيانوسَ الظَّالِمِ في عُمْقِ لُبَّةِ الدَّهْرِ...
بِنَفْسِي مَنْ كَانَتِ الْعَيْنُ أَشْوَاكاً أَجْهَدَتْ قَلْبَهُ عَطَشاً... بِنَفْسي مَنْ صَاغَ مِنَ الصَّادِ صَبْراً طَغَى عَلَى حَدِّ السُّيُوفِ وَهَدِيرِهَا... وَعَلَى لَوْعَةِ الْآلامِ وَمَرَارَاتِهَا...
فِيكَ حَارَ يا حُسَيْنُ الْكَيَانُ... وَتَمَاهَتْ آيَاتِكَ في شِرْبِ الْجَنَانِ... وَعَثُرَتِ الْحُرُوفُ بِآهَاتِهَا فَوْقَ سُطُورِ حِكَايَتِكَ الَّتِي ارْتَجَلَتْهَا عِنَايَةُ اللهِ وَحِكْمَتُهُ... تِلْكَ الْحِكَايَةُ الدَّامِيَةُ الَّتِي جَسَّدَتِ انْعِتَاقَ كَهْفِ أَنْجلوسَ مِنْ إِهَابِ الزَّمَنِ لِيَصُوغَ عَلَى الْمَدَى كَرْبَلَاءَ... كَرْبَلَاءَ بِعِبَرِهَا وَعَبَرَاتِهَا... بِقِيَمِهَا وَجِرَاحَاتِهَا...
تَرَكْتَ الْخَلْقَ طُرًّا وَرَسَمْتَ بِالنَّجِيعِ دَرْبَ حُبِّكَ لله... خَطْوُكَ اعْتِلَاءُ الرُّوحِ فَوْقَ جَنَاحِ الْكَلِمِ، وَالتَّحْلِيقُ في رُبُوعِ الْمَلَكُوتِ... عَيْنَاكَ تُصَافِحَانِ الْمَلَائِكَ وَوَجْهُكَ مِرْآةٌ لِلسَّمَاءِ... عَلَيْهِ يَنْحَنِي الزَّهْرُ وَيَغْفُو الْمَاءُ... بِخُشُوعٍ يَتَرَقْرَقُ مِنْ ثَغْرِكَ عِشْقٌ سَمَاوِيٌّ...
تَرَكْتُ الْخَلْقَ طُرًّا فِي هَوَاكَ
وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَيْ أَرَاكَ
فَلَوْ قَطَّعْتَنِي فِي الْحُبِّ إِرْباً
لَمَا مَالَ الْفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَ
وَقَفْتَ فِي وَجْهِ الزَّمَانِ مُدَافِعاً عَنْ حَقِّ الضِّيَاءِ فِي سِقَايَةِ الْقُلُوبِ، وَحَقِّ الْهَوَاءِ فِي تَنَفُّسِ عِطْرِ الضِّيَاءِ... فَأَطْبَقَ عَلَيْكَ دِقْيَانوسُ كُلَّ مَنَافِذِ الهَوَاءِ... فَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ.. وَإِذَا الْأَرْضُ مُلِئَتْ مِنْ أَشْوَاكِ الظَّلَامِ... وَأَطْرَافُ الْقُلُوبِ يَبَسَتْ تَحْتَ سَطْوَةِ الدُّنْيا... لا شَيْءَ يُحْيِي أَنْفَاسَ الْكَوْنِ الْمُخْتَنِقَةَ، إِلَّا قَطَرَاتٍ مِنْ رُوحِكَ تَنْتَشِي بِضَوْئِهَا رِئَةُ الْحَيَاةِ...
وَانْسَابَ النُّورُ لَحْناً وَلَائِيًّا مِنْ وُجُوهِ أَقْمَارِكَ شَلَّالاً عَلَى صَفَحَاتِ الدَّهْرِ "رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَّقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطَا"... فِي طَرِيقِ اللهِ تَلَاقَتْ خَطَوَاتِهِمْ... وَإِلَى اللهِ كَانَ مَسِيرُهُمْ... إِلَى الْإِصْلَاحِ فِي أُمَّةِ الْمُصْطَفَى...
أَطْلَقْتَ صَرْخَةَ الْحَقِّ، فَاهْتَزَّتِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا... فَهَلْ أَنَّ صَرْخَةَ مَاكْسِي مِليانوسَ فِي وَجْهِ الإِمْبراطورِ لَبِسَتْ كَلِمَاتِكَ الْمُقَدَّسَةَ... أَمْ أَنَّ صَرْخَتَكَ فِي وَجْهِ يَزِيدٍ جَسَّدَتْ تَمَرُّدَ مَاكسي مِليانوسَ عَلَى الشِّرْكِ وَالطُّغْيَانِ؟
أَطْلَقْتَ صَرْخَةَ الْحَقِّ.. وَأَوَيْتَ إِلَى كَرْبَلَاءَ.. لِيَنْشُرَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقَا...
أَوَيْتُمْ إِلَى كَرْبَلَاءَ... بِأَنْفُسٍ تَفِيضُ اطْمِئْنَاناً... وَقُلُوبٍ تَكَادُ تَطِيرُ مِنْ فَرْطِ شَوْقِهَا لِبَارِئِهَا... تَغْفُو بِأَمَانٍ عَلَى غَلَائِلِ رَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ... وَكَأَجْنِحَةِ ضَوْءٍ تَأْتَلِقُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ، تَجْأَرُ أَرْوَاحُكُمُ الطَّاهِرَةُ بِالدُّعَاءِ... تَسْتَمْطِرُ مِنَ اللهِ الرَّجَاءَ...
"رَبَّنا آتِنا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَدَا"... طُقُوسُ الْمُنَاجَاةِ تَرْتَدِي لَوْنَ الْمَاءِ... وَنَغَمُ الدُّعَاءِ يَخْتَلِطُ بِأَنْفَاسِ اللَّيْلِ الْهَادِئَةِ... الْأَرْضُ تَشْرَبُ ضَوْءَ النُّجُومِ، وَأَرْوَاحُكُمْ تَلْثُمُ وَجْهَ السَّمَاءِ... حَتَّى إِذَا مَزَّقَتْ خُيُوطُ يَوْمِ الْفَاجِعَةِ أَكْفَانَ الْعَتمةِ، أُهرِقَتْ أَنْهارُ الْمَوَدَّةِ فِي الْقُرْبَى لِتُصَافِحَ تُرَابَ كَرْبَلَاءَ...
وَإِذَا الشُّهَداءُ عَلَى الرَّمْضَاءِ... تَحْسَبُهُمُ الْعَيْنُ رُقُوداً وَهُمْ أَيْقَاظٌ... يَرْوُونَ بِدِمَائِهِمُ الْأَذَانَ، وَبِهِمْ تَسْتَمِدُّ الصَّلَاةُ حَيَاتَهَا وَعُنْفُوَانَهَا...
وَإِذَا رَأْسُكَ علَى الرُّمْحِ مَا زَالَتْ بِهِ تَجْرِي الْحَيَاةُ... مَا زَالَ أُحْجِيَةً قَابِعَةً فِي قَلْبِ الدَّهْرِ... مَا زَالَ رُوَاؤُهُ غَضًّا، يَتَوَضَّأُ الْوَرْدُ بِإِشْرَاقَتِهِ، وَيَتَنَفَّسُ السُّجُودُ تِلْكَ السَّكِينَةَ الْمُتَضَوِّعَةَ مِنْ جَبِينِهِ... وَالدَّوِيُّ مِنْ ثَغْرِهِ يَصْدَحُ عِطْراً تَشْرَبُهُ الْأَرْضُ لِتَحْيَا بَعْدَمَا كَانَتْ مَوَاتًا...
"أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبَا"...
وَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ يُصَافِحَ مُحَيَّاكَ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ، فَاعْتَلَى رَأْسُكَ ذَلِكَ الرُّمْحَ مُنْتَشِياً بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ... وَصَلَاةُ الرَّبِّ عَلَيْكَ تَنْضَحُ مِنْ آيِ الذِّكْرِ... وَالْمَلَائِكُ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لَكَ إِكْبَاراً لِتَضْحِيَاتِكَ وَشَهَادَتِكَ...
وَحِينَ سَدَّ دِقيانوسُ مَدْخَلَ الْكَهْفِ، أَبَى نُورُ الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنْ يَخْتَرِقَ الْحُجُبَ، وَيَمْسَحَ عَلَى الْقُلُوبَ فَيُنْعِشُهَا بِلَذِيذِ الْيَقِينِ... وَلَطَالَمَا حَاوَلَ مِنْ بَعْدِهِ أَلْفُ دِقيانوسَ طَمْسَ نُورَ اللهِ الْمُتَجَلِّي فِي قَدَاسَتِكَ... "وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورُهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ"...
فَأَيُّ حُبٍّ للهِ تَعَالَى هَذَا الَّذِي يَسْكُنُكَ؟... وَأَيُّ آيَاتٍ هَذِهِ الَّتِي أَطْلَقَتْهَا دِمَاؤُكَ فَهَزَّتْ عَالَمَ الْإِمْكَانِ؟...
وَآيَاتُكَ يَا حُسَيْنٌ أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ... مَحَوْتَ الْمَسَافَاتِ، بَيْنَ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا، وَبَيْنَ الْكَهْفِ وَكَرْبَلَاءَ...
لَيْسَ الْعَجِيبُ رُقُودَ أَهْلِ الْكَهْفِ بِسَلَامٍ مُتَدَثِّرِينَ بِعِنَايَةِ اللهِ، إِنَّمَا الْعَجِيبُ أَنْ يَقْتُلُكَ دِقيانوسُ عَطْشَاناً وَأَنْتَ ابْنُ رَسُولِ اللهِ وَرَيْحَانَتُهُ... الْعَجِيبُ أَنْ تُغَسَّلَ بِالنَّجِيعِ وَتُكَفَّنَ بِالتُّرَابِ.. وَتُشَيِّعَكَ الْخُيُولُ بِحَوَافِرِهَا...
وَطَالَ الرُّقُودُ... بِانْتِظَارِ جَلْوَةِ الشَّمْسِ مِنْ خَلْفِ أَمْوَاجِ السُّحُبِ... حِينَهَا سَتُشْرِقُ الْأًرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا... كَشُرُوقِ الضَّوْءِ مِنْ كَهْفِ أَنْجلوسَ بَعْدَ ثَلاثُمائَةِ عَامٍ، وَانْسِيَابِهِ كَالْمَاءِ القَراحِ في فَوْضَى الدُّنْيَا... وَسَيَظْهَرُ مَاكسي مليانوسُ وَأَصْحَابُهُ شُعَاعاً يُعَانِقُ نُورَ اللهِ الْمُتَجَلِّي فِي إِمَامِ الزَّمَانِ... وَعَلَى رَايَتِهِمْ تُجَلْجِلُ تَلْبِيَةُ النِّدَاءِ... يَا لَثَارَاتِ الْحُسَيْنِ...
وَإِذَا بِأَنْصَارِكَ يَنْفُضُونَ عَنْ رَقْدَتِهِمُ التُّرَابَ، وَأَرْوَاحُهُمْ تُصَافِحُ سَنَاكَ الْمُتَجَلِّي فِي الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ...
فَسُبْحَانَ مَنْ خَطَّ عَلَى لَوْحِ الزَّمَنِ حِكَايَتَكَ مِنَ الْكَهْفِ... إِلَى كَرْبَلَاءَ... إِلَى الْحَشْرِ.. حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ قَائِماً، يُفَرِّجُ عَنَّا الْهَمَّ وَالْكُرُبَاتِ...

الاثنين، 9 مايو 2011

مع السبايا إليك... مشاية


يستعر الشوق في روحي وتلتهب الذكرى في فؤادي.. فجئت ألملم شظاياها لأودعها سطوري...



(1)



قصدنا القبر مشاية والشوق
إلى زيارتك نار وبراكين
او من كل محل تقصد معانا
أرض كربلا جموع الملايين
رجال وشباب ونسوة وأطفال

كهول وعواجيز ومسنين
مواكب تنادي وا حسيناه

يا رحمة إلى كل المحبين
لقبرك تعنينا زوار.. والحنين لكربلا نار
وا إماماه.. وا إماماه.. وا حسيناه.. وا حسيناه

الجو محموم بصخب البكاء... والليل يؤجج الحنين، فيصدح الأنين بين الضلوع...

هكذا كان الجو في حافلتنا التي أقلتنا من الكاظمية إلى كربلاء، بعد زيارة أودعنا فيها ضريحي الإمامين الجوادين (ع) الولاء مع القبلات ودمع الاشتياق.. وندبنا سيد الشهداء (ع) في الصحن على وقع الصوت الشجي للملا حسين اللواتي، وتشرفنا بالصلاة جماعةً تحت ظلال الجوادين (ع)...




وها هو الليل قد غشينا فاتخذناه إلى كربلاء براقاً... وكانت أوتار ملا حسين تزيد الشوق في أرواحنا اضطراماً، وتخنق نبضات قلوبنا وجعاً...



كبرت الله وسبحته _ بخشوعي أدخل بدارك
يا حسين اقبلني زاير _ واكتبني بدفتر زوارك

ويلتهب الدمع المنهمر من عمق الألم مع التهاب صوته بالأسى...

نهل دمعة على دمعة.. ولا خلصن مدامعنا

لأن مصيبتك يا حسين.. ممزوجة بمشاعرنا
تربتنا من ترابك.. عليها دوم سجدتنا
وسبحتنا من ترابك.. نسبِّح بيها بارينا
وإذا صرنا بعطش يا يوم.. ذكرك بس يروِّينا
وإذا حلَّت مصيبة وهَمْ.. مصابك ليها بلسمنا

أهيم بعالم أحزاني.. إذا فاض القلب وجده

وأحط بكربلا رحلي.. وأنوح بساعة الشدة
لأنك ماتم أحزاني.. طيب الروح من ورده
لأن مصابك الدامي.. ما واحد بلغ حده
أشد مصابي بمصابك.. وأحفر بالقلب لحده
وأنسى مصابي وأتأمل.. مصابك عالم لوحده

نظرت صوب النافذة.. السماء حزينة ترتدي السواد... كأني بها تشعر باختلاجات روحي وتكسر عبراتي في صدري فإذا بها كالمطر...



والصوت الشجي ما زال يصدح...

هذا السلام سيدي من مهجةٍ مقطعة

على الشفاه الذابلات والعيون الدامعة
على النساء الشاردات في الطفوف صادعة
على الألى قد هجروا أوصالهم في الواقعة
على اليتامى.. على الأيامى.. والجثة المبضعة

تبادلت مع الخالة والدة الملا حسين أطراف الحديث... بثثتها لواعجي وحنيني.. حدثتها عن ذكرى حبيبي الحسين (ع) وزياراته التي طالما آنستني في رؤاي وزادت إلى حنيني حنينا... حدثتها عن تلك الرؤيا التي رأيت نفسي فيها شهيدة بين يدي مولاي الحسين (ع)...




تحدثنا سوية عن خدمة المولى أبي عبد الله (ع)... وتشعب بيننا الحديث...



المشاية يتدفقون من كل مكان... والزحام شديد... والشوق يلتهب، ومعنا امرأة مريضة... خيم علينا الهدوء، نام الكثير منا... ست ساعات قضيناها في درب الشوق حتى فتحت عينيَّ على صوت الشيخ محمد سعيد التيتون وهو يقول: على اليمين قبة الإمام أبي عبد الله الحسين (ع)...



احتقنت المشاعر بين الحنايا واستفاق الدمع مترجماً لغة الحنين...

السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله.. السلام عليك يا وارث نوحٍ نبي الله.. السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله.. السلام عليك يا وارث موسى كليم الله... السلام عليك يا وارث عيسى روح الله.. السلام عليك يا وارث محمدٍ حبيب الله.. السلام عليك يا وارث أمير المؤمنين ولي الله.. السلام عليك يا ابن محمدٍ المصطفى... السلام عليك يا ابن عليٍ المرتضى... السلام عليك يا ابن فاطِمةَ الزهراء...

عين الحسين (ع) رعتنا بحنانها.. ورفقت بالمرأة المريضة التي كانت معنا... فإذا بحافلتنا تقف عند باب الفندق... اللهم صل على محمد وآل محمد...

لملمت كلي، وقصدت حبيبي مع أخواتي بغبار السفر بعد أن جددنا الوضوء، والشوق يجلببني وقد مات تصبري...




أودعنا أحذيتنا إحدى المستودعات، لنمشي إليه حافيات الأقدام رغم البرد الشديد...



وانسكب حديث القلب على الأعتاب حال الوصول... ليسطر بمداد الدمع حكاية شوقٍ أخرى تختزل العشق بين الحائر والعلقمي... حكاية العناق الأول...



السلام على الصابر من دون نصيرِ
السلام على مهدٍ بلا طفلٍ صغيرِ
السلام على الروس المشالاتِ تفرت
وعلى النحر قام همه حال الخدورِ
جئت حزناً ألبي.. قرَّح الهم قلبي
السلام على المغسول من دم الجراحِ
وعلى صحبه باتوا على الطف أضاحي
وعلى شيبه المخضوب في خدٍّ تريبِ
وعلى الجسم مسلوباً تغطى بالرياحِ
ليتني بالطفوفِ.. دونكم للحتوفِ


تلك هي حكاية أجمل لقاءٍ مع حبيبٍ يجيب حبيبه...


(2)



العناق الأول.. تتلوه عناقات وعناقات...



وجمرة الحنين لا تبرد... مهما طال العناق أو تكرر...

ولنا في أوقات الصلوات... وفي كل ليلة، لقاءات نجدد فيها عهدنا بآل الله... صلوات جماعة.. مجالس حسينية.. محاضرات... لطميات... دروس.. ثم زيارة جماعية نتنفس منها عطر المودة في القربى، عسانا نصل إلى المودة الحقيقية لهم (سلام الله عليهم)... ثم حلقات عزاء في الصحن الشريف للمولى الحسين (ع) أو في حضرة أبي الفضل العباس (ع)...




وكعادته.. يطير بنا الملا حسين إلى عالم يضج بالروحانية...



ازدهي من ألقٍ أحرف روحي _ مُنْوِراتٍ من دما نحر الحسينِ
ولتشتدِّي عروقي بالفداء _ أزهري بِاسم حروفٍ للحسينِ
إنها أحرف عزٍّ وإباء _ إنها أحرف حزنٍ وأنينِ
غردي ولتشرقي باسم الهدى _ بإمامٍ مزهرٍ للخافقينِ

حرف حاءٍ حرف سينٍ حرف ياءٍ ثم نون
وبها أصبح حزني بين شوقٍ وشجون
ولها الدمع هتونٌ في فصولٍ لقرون
يبتغي الوصل بعشقٍ قاصداً قبر الحنون


فسلامٌ.. يا حسينٌ.. ليتني اليوم لك يا سيدي زائر
فسلامٌ.. يا حسينٌ.. ليتني دونك فوق تربها عافر
فسلامٌ.. يا حسينٌ.. في خطاك اليوم أبقى سيدي سائر


آهٍ يا ركباً أتى يبغي الحِمام.. في سبيل الله يأبى أن يضام
يعشق الموتَ لكي يجلو الظلام.. كي يعيشَ الناسُ أحراراً كرام
فيهمُ من كل شهمٍ أنجبِ.. عارفٍ بالله إيماناً حُبِي
قارئٍ للذكر للظلم أبي.. قد فنوا حبًّا لسبطٍ للنبي

/

كل عام وهالعزا _ لينا الشرف سنين _ دوم بحبه نسير _ وبنهجه سالكين
ننعى بمصيبته _ بصيحة أيا حسين _ نواسي لقلب البتول _ نعيش بيومه الحزين

هذا العزا يظل _ باسم الوفا يمر _ يجدد في كل سنة _ دمعاته تنهمر
يهتف بكل فخر _ وعنوانه هالأمر _ عاش الحسين شهيد _ ومات الطاغي شمر

بسوادي او مأتمي _ يظل قلبي يحتمي _ يظل واجب وثواب _ رثا الفرع الهاشمي
تظل شوقي كربلا _ وأبو اليمة عالمي _ او لهفاتي أكبرية _ وأنا جرحي قاسمي




/



يا حبيب ابعلم.. انصر ابن البتول.. واحمي هذي الخيم.. يا حبيب الرسول
بالطفوف الغريب.. ما إله من مثيل.. يبقى حاير وحيد.. جاوبه بالأصول
يا حبيب الحسين.. حسين يمسي قتيل.. يوم عاشر يصير.. خده فوق الرمول

خل أخبرك بعد.. حسين يصبح غريب.. انصره بالدما.. خل مهجتك تذوب
بيع نفسك إله.. وصير بالدم خضيب.. خضب لهامتك.. شيبتك يا حبيب
رايتك بالطفوف.. تنتظر يا نجيب.. رايتك خل ترف.. عالبشر والشعوب

يا زهير الحسين.. يبقى مفرد وحيد.. انصره بكربلا.. بالفدا والوريد
والبطل بو الفضل.. يضربوه بالعمود.. يقطعوا بالظلم.. منه ذيج الزنود
حتى ذاك الرضيع.. ينذبح بالحديد.. ينذبح بالسهم.. من لعين وعنيد

/


لغات نشيجٍ مختلفة تنبع من حيث سقطت بدور كربلاء.. منها لغةٌ تساقطت مع الدموع الساخنة عند مقام علي الأكبر (ع)..


اسم الله على طولك علي.. تقعد وحاجيني
يا نور عيني.. للوطن وديني
بعدك على الدنيا العفا يا علي يبني
أكبر يا نور العين.. فرقاك شيبني



/



وهكذا.. كان لكل عناق لون مميز..



والروح تستشعر ذلك التحنان المنسكب من الحائر، ليغمر المسافات بين الحلم والحقيقة، وبين الندى والمطر...



وأتى ركب المشاية الذين حفظتهم عين الحسين (ع)، فكتب الرب تعالى ببركته التي لطخت الهواء لهم حياة جديدة...



ولأن حسيننا شريان حياتنا والماء الذي يعطر أرواحنا بنور الله، فقد نثرنا الورد على مثواه قرآنا...



(3)



قومي يا زهراء.. من أرض المدينة
وشوفي الرضا اليوم.. زايد ونينه



أرواحنا مخضلَّة بالوجع.. تصوغ بماء العيون آيات العزاء وتنثرها بين الأضرحة المطهرة...



هنا في كربلاء... غريب...


وهناك في طوس... غريب...

ومشاعرٌ متوهجةٌ تختصر المسافات بين مشهد، وكربلاء... زرعناها ورداً على خارطة الحنين...




لأجلك الليلة اجتمعنا.. نشرح الحالة بدمعنا
يا غريب الغرباء.. يا سليل الأنبياء



ومشينا.. حاملين جمان الدمع على الأكف قاصدين غريب كربلاء، نواسيه.. وفي حضرته نعزي من أخفى القدر علينا قبرها...



وما زلنا نكمل مسيرة الحزن بين دروب الجنة لنعزي مولانا أبا صالح.. وبين خطوةٍ وأخرى تلهج قلوبنا باسم أمنا الزهراء (ع)... لا برد يمنعنا ولا مرض...



قلبج يا زهره اشحامل مصايب
كل يومه مفقود من هالأطايب
هذا بسجن راح وهذا بترايب
وهذا بلا راس ومرضضينه




وذكر الشهيد يختلط بالعبرات كل يوم.. وجذوة المصاب في قلوبنا لا تبرد...

بأبي أنت وأمي يا وريث العظماء

أيها الوارث من عيسى وموسى ما يشاء
أودع المختار في صدرك أسرار السماء
هل صحيحٌ ذبحوك القوم لم يسقوك ماء
هل صحيحٌ كنتَ ملقىً دون رأسٍ بالعراء
يا لثارات عليٍّ وجميع الأنبياء
ما سقوا قلبك إلا بالرزايا والسهام
لك من قلب محبيك التحايا والسلام




/



فمن الواجب عيناً لبس سربال الأسى
واتخاذ النوح ورداً كل صبحٍ ومسا
واشتعال القلب أحزاناً تذيب الأنفسا
وقليلٌ تلف الأرواح في رزء الحسين



(4)



وصدح أذان المغرب مخضباً ذرات الهواء بطقوس تجديد الحزن في العشرين من صفر...



وتجمعت كل اللغات لتخيط غيوم الحزن لتذرف المطر دمعا...



بدأت طقوس البكاء تتخلل غرف الفندق.. وصوت الملا حسين يتكسر بين الدموع المتناثرة كأوراق وردٍ انطفأ رواؤه بمصاب الحسين (ع)..



قم جدد الحزن في العشرين من صفرِ _ ففيه ردت رؤوس الآل للحفرِ


يا زائري بقعةٍ أطفالهم ذبحت _ فيها خذوا تربها كحلاً إلى البصرِ


والهفتا لبنات الطهر يوم رنت _ إلى مصارع قتلاهن والحفرِ


رمين بالنفس من فوق النياق على _ تلك القبور بصوتٍ هائلٍ ذعرِ



صبغنا أرواحنا بأنين جابر.. وامتطينا الزمن، لتصلي قلوبنا على الضريح صلاة الارتماء... وواصلنا نظم قصيدة البكاء مع خطوات جابر...



ثم لملمنا جراحنا المغسولة بالحزن والحنين و...



قصدنا القبر مشاية والشوق _ إلى زيارتك نار وبراكين


او من كل محل تقصد معانا _ أرض كربلا جموع الملايين


رجال وشباب ونسوة وأطفال _ كهول وعواجيز ومسنين


مواكب تنادي وا حسيناه _ يا رحمة إلى كل المحبين



لم أعبأ بحمى أو وجع.. فقط جمعت شظايا روحي التواقة للعودة إلى الحبيب مع السبايا، والدواء المسكن نائم في جيبي رغم أني لم أعبأ به إلا في طريق العودة رغم شدة الألم...



جئناك سيدي مع السبايا.. يتامى نعثر بأحزاننا ونتنفس بقايا عبراتنا التي التقطتها رياح الطف.. فضمنا عندك يا ذا القلب الكبير...



الشوق لاهب.. والدمع ساكب.. والقلب كاتب.. آيات الحبَّ
يا مولى العمرِ.. يا فوح العطرِ.. صوتٌ من ثغري.. شوقاً يلبي
مولاي الغالي.. جاءت أوصالي.. للصرح العالي.. يا نور الدربِ
تعلو دعواتي.. يا شط نجاتي.. يا وعدي الآتي.. من عند الربِّ

للقبرِ قامت روحي _ سمت باسم الله الباري
قامت في حزنٍ تبكي _ بالتسبيحِ والأذكارِ

ترجو أن تحظى وصلاً _ في الجناتِ والأزهارِ
تدري أنك رجواها عند الأمنِ والأخطارِ

خذني للقبر الزاكي _ فيه لا تخبو أوتاري
خذني للصحن الباكي _ فيه كم تشدو أشعاري
يا رحمة الرحمنِ _ قلبي من خلف الأسوارِ
هبَّ اليوم للقيا _ وانبثَّت منه أطياري


نظرةٌ تتشظى ألماً.. مخضلةً بالدمع.. مختنقة بالوجع.. إلى المخيم، ومقام إمامي الحجة المنتظر... آهٍ لأوجاع زينب.. أكل إرهاصات الفؤاد التي تنخر فينا هي نقطة من بحر أحزان زينب؟... آهٍ لصبركِ يا سيدتي...!


نمشي.. وأقدامنا بتراب الجنة تتبرك، وبعطر المشاية تزهو... (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم)...



تتعالى دقات القلوب... تستنفر المحاجر فتهطل العبرات كالميزاب... الأيدي ترتفع مصافحةً قبة الحسين (ع)... والحبيب يفتح لنا بابه ليحتضننا... لست أدري أي الكلمات تفي لسكب مشاعري التي انتابتني آنذاك؟



تعلو صرخاتنا مع الملا حسين "لبيك لبيك أبا عبد الله".. تجري الدموع... يا لها من لحظات تفوق الوصف...!.. دخلنا ملبين.. وما إن عانقت أعيننا المضرجة بالدموع الضريح الذي يسكنه المعشوق، صرخت كل خلية فينا منادية "السلام عليك يا أبا عبد الله"...



وتجارى الدمع مع صوت الملا وأيدينا ترتفع مسلمةً تارةً ولاطمةً تارةً أخرى...



فداءً لمثواك من مضجعِ _ تنوَّر بالأبلج الأروعِ


بأعبق من نفحات الجنانِ _ روحاً ومن مسكها أضوعِ


ورعياً ليومك يوم الطفوف _ وسقياً لأرضك من مصرعِ


وحزناً عليك بحبس النفوس _ على نهجك النيِّر المهيعِ


وصوناً لمجدك من أن يذال _ بما أنت تأباه من مبدعِ


فيا أيها الوتر في الخالدينَ _ فذًّا إلى الآن لم يشفعِ



الروح في حضرة الحبيب تختلج.. تود الانعتاق من قيد الجسد لتعانق الضريح بكلها... لعمري شعرت كأني أرى الحبيب للمرة الأولى...





شممتٌ ثراكَ فهبَّ النسيم _ نسيم الكرامة من بلقعِ


وعفرت خدي بحيث استراحَ _ خدٌّ تفرى ولم يضرعِ


وحيث سنابك خيل الطغاةِ _ جالت عليه ولم يخشعِ


وخلتُ وقد طارت الذكريات _ بروحي إلى عالمٍ أرفعِ


وطفتُ بقبرِك طوف الخيال _ بصومعة الملهم المبدعِ


كأن يداً من وراء الضريحِ _ حمراء مبتورة الإصبعِ



نثرنا قطرات العشق في الصحن الشريف... وأكملنا مسيرة الدمع نحو قمر العشيرة... لندخل إليه رافعي الأيدي ولسان حالنا ينادي "العطش العطش"...


مع الملا كنا نصيح:





بو فاضل نادى خوه يا مولاي


يتاماك تصرخ الماي الماي



لقد كسر أبو سارة قلبي عندما هتف ونحن نرنو بأعيننا العبرى نحو الضريح:



يا جواد حسين وينه بالسيوف مقطعينه...!



ولدى القمر جددنا عهدنا بالحسين.. بخط الحسين.. عسى ربنا أن يهدينا ويجعلنا من أنصار الحسين وابنه المهدي الموعود...



لكربلا نوصل ونجدد الذكرى _ نصرخ ننادي هذا حسين واقعنا


بصرخة الدمعة واللهفة والحسرة _ للأبد يا حسين انته انته والينا



وختمنا مسيرتنا بالدعاء لإمام زماننا ولأحبتنا وللمؤمنين ولنا جميعاً...



/



قمت بضبط المنبه كي أستيقظ لأداء صلاة الليل.. وما إن رن المنبه حتى فتحت عينيَّ وإذا بآلام المرض تعصف بي بشدة فلم أستطع النهوض.. بقيت في الفراش حتى وقت صلاة الفجر.. بقيت صلاة الليل في الأربعين حسرة بقلبي لكن الله الرحمن الرحيم أعلم بنيتي والحمد لله على كل حال...!



/



جاء الصباح حزيناً مثقلاً بالذكرى... آهاتنا تكتب في السماء "حسينٌ يا حسين.. حبيبي يا حسين... حبيبٌ يجيب حبيبه"...



بدأنا طقوس البكاء صباحاً.. وبعد صلاتي الظهرين أقبل الشباب صارخين "حسين.. حسين.. حسين........"... يعزفون الحزن على أوتار قلوبنا الموجوعة حتى النخاع، فينسكب اللحن دمعا... وأكمل الملا أبو سارة تراتيل البكاء ليجعلنا نخطو مع جابر حتى نصل للقبر الغالي فتقفز قلوبنا من بين أضلعنا وتعانق القبر وتنادي مع جابر "حبيبٌ لا يجيب حبيبه"... ومع السبايا جئنا نشيع الرأس المطهر فإذا بدمائه تحكي لنا قصة المصرع لتعلو صرخاتنا من أعماقنا المشحونة حرارةً لحسيننا لن تبرد أبداً...



أيها المهر توقف لا تحم حول الخيام


واترك الإعوال كي لا يسمع الآل الكرام


كيف تستقبلهم تعثر في فضل اللجام


وهم ينتظرون الآن إقبال الحسين



عادت لنا ذكرى المصرع المهول وصرخاتٌ ألهبت الكيان.. هناك على أرض الوطن، تلعلع صيحة أحرفها "حسين" مع كل لطمة.. لكن هنا في الجنة، كل شيءٍ يصرخ "حسين"...!



صاح السجاد اكشفي الغطاء


عمة يا زينب وانصبي العزاء


هذا المظلوم مرمي بالعراء


نايم لوحده على حر الثرى


وهذا راسه عالرماح...!



وكانت بصمتنا الأخيرة في إحياء الأربعين في حضرة مولاي نزوره ونزور الآل والصحب ونبكيهم.. وواصلنا تجديد العهد عند أبي الفضل العباس (ع)...



(5)







المرض يشتد.. وأذان الفجر صدح ممتزجاً بلحن المطر...



بعد صلاة الفجر والأدعية، ضمخ المطر ثيابنا لنصعد الحافلة المتوجهة إلى سامراء، بعد أن ودعت الخالة أم الملا حسين التي شعرت بحنان والدتي يمتد إلي عبرها، إذ كانت مع المجموعة المتوجهة إلى النجف الأشرف.. تعاهدنا على لقاءٍ آخر وأرجو أن يُكتب لنا ذلك قريباً...



وما إن نامت الفتيات بجواري حتى أفردت دفتري الصغير وامتشقت يراعي وأكملت رحلة الانسكاب التي بدأتها في كربلاء...



ست ساعات انطوت بمعانقة أعيننا المشتاقة للقبتين... ترجلنا وقطعنا مسافةً لا بأس بها حتى وصلنا للصحن المطهر وصلينا جماعة بإمامة شيخنا محمد سعيد التيتون... ثم توجهنا للأضرحة الطاهرة وقرأنا الزيارة وصلينا ثم تفرق الجمع لممارسة صلاة العناق...



وكانت تسليمة صلاة العناق في السرداب الشريف.. إذ كانت "متى ترانا ونراك" صورةً تترجم الدمع المتكسر في محاجرنا...



(6)



من الفرات.. إلى الحائر، كان مسيري ذاك الصباح، وعناقٌ آخر جمعني بحبيبي الحسين (ع) وأنصاره وأهل بيته...



حملنا قلوبنا التي يفيض منها الحنين حتى سال على أكفنا لؤلؤاً منثورا.. وتوجهنا شطر النجف الأشرف وحب الأمير (ع) تاجٌ تقلدته هاماتنا من المهد إلى اللحد...



وصلنا وأرواحنا تسبقنا مرفرفة إلى ضريح الأمير (ع) توسعه لثماً وعناقاً...





جيتك يا حامي الجار وصبري ما إجا وياي


ما أريد أخلي زيارتك وأرجع لدنياي


افتح لي يا باب الرجا.. علي يا علي


ما عندي غيرك ملتجى.. علي يا علي



كان ذلك اليوم هو يوم الخميس.. وقد انتهت صلاحية عدساتي اللاصقة، فكان خروجي من جنة كربلاء إلى جنة الغري بالنظارات الطبية...



فتح الإمام لنا بابه عند الظهر فأدينا الصلاة.. ثم مضينا لزيارة الإمام (ع) وكلنا شوق يكهربنا من أم الرأس إلى أخمص القدمين... دخلت الرواق المعطر بحضور الملائكة.. ومشيت حتى بلغت باب الضريح، فسالت عبراتي مع كلمات إذن الدخول.. عندها خطوت صوب الضريح حتى وصلت وبدأت صلاة عناقٍ أخرى ليتها طالت...



ثم خرجت لأقرأ الزيارة بهدوء بعيداً عن الزحام، فرأيت لوحة مكتوب عليها الزيارة، لكنني لم أستطع القراءة لأنني خلعت النظارة ووضعتها في جيب سترتي الصوفية قبل الصلاة... فمددت يدي إلى جيب السترة لكنني صعقت إذ لم أجد النظارة... انقلب كياني.. لكن خطر لي خاطر هو أن أبحث عند أميري (ع).. فعدت أدراجي متوسلة بالأمير (ع).. واستأذنت مرة أخرى ودخلت أرمق الضريح بعينين متوسلتين، ثم حانت مني التفاتة نحو اليسار، فرأيت إحدى خادمات الحرم المطهر تمسك بنظارتي وهي سليمة... آه شكراً لربي ثم لأميري الذي ما خيبني قط!



خرجت مرة أخرى وقرأت الزيارة واسترحت قليلاً في الصحن الطاهر، ثم انضممت إلى المجموعة من أجل الزيارة الجماعية... وقد غمرنا الأمير (ع) بكرمه فلم نخرج من حضرته إلا وبيدنا شيء من ضيافته...



ولأن عودتنا إلى كربلاء الحبيبة تزامنت مع ليلة الجمعة، فقد ازدادت طقوس دعاء كميل جمالاً عند مولاي الحسين (ع)... وكانت تلك الزيارة هي زيارة الوداع.. بدأناها بالحائر وختمناها بالعلقمي... آاااااه ما أقسى لحظات الوداع...!



حبيبي يا أبا عبد الله ضمنا عندك...



(7)



أي وطنٍ هذا الذي أبعدني عنكم يا سادتي الأحبة؟





كلما أرهصني الحنين.. نطقت روحي دمعاً، فكانت "أشواق خلف قطرات المطر" بعضاً من تلك الدموع...



/



أزورك بروحي وعقلي يا إمامي
شهيدٌ أنت حيٌّ إذن فاسمع كلامي
حسينٌ بك قلبي وقلب الدين دامي
تقبَّل من بعيدٍ صلاتي وسلامي

على الظامي الذي لا لم يذق شربة ماءِ
على الشيب عفيراً وخضيباً بالدماءِ



/



رباه.. ارزقنا عودة للأحبة...!

الأحد، 10 أبريل 2011

آياتٌ أُهرِقَتْ حروفُها..

بين ضلوعكِ تغفو لؤلؤةٌ جريحةٌ متَّشحةٌ بثوب عرسها الأبيض، المخضب بحمرةٍ قانيةٍ تشخب من لبَّتِها المشحونة بأوجاعِ أبنائها.. يغطي الجرح وجهها الذي مزقت بياضه الناصع أمارات الحزن والعذاب، لتبكي حتى الاختناق.. فإذا بدمعها ينساب من كفيكِ أمطار قوافٍ غزيرة... تسيل مع دماء الشهداء التي فرشت ذاكرة الثرى بأوراق الورد المتناثرة، الثائرة على حلقات الدخان التي طوَّقت عنق الوطن وخنقت أنفاسه... / الوطن الأسير.. الجريح.. ظامئٌ حتى العمق.. مثخنٌ بصنوف العذابات... وما إن قرَّبتِ إلى شفتيه اليابستين كأساً من الحب ممزوجة بوقع آيات الثورة التي خاطتها خفقاتكِ الحزينة، المتمردة على حرمان القلوب من حق ورود نبع الحرية، حتى أصاب سهم الحقد كأس حنانكِ.. .. ...و.. أُريقَ الماء... فانثالت مع القطرات أصداءُ روحٍ رقراقةٍ زجاجية اللون، وردية الإيقاع، ياسمينية العبير، تتلألأ في آثار خطواتكِ المطبوعة على تراب البحرين، حتى اختفت.. إذ امتشقت يد الجلاوزة بقاياها، فإذا أنتِ وسط عالمٍ مجهولٍ يسكنه الأبطال... وعينا الأم يا آيات مسمرتان على اللؤلؤة الشامخة المنكسرة الفؤاد، التي تعانق السماء، وتبث لواعجها إلى بارئها - تبحثان عنكِ في بريقها الأبيض.. قلبها يضج متضرعاً لرب السماء، والرجاء يخلل أصابعها مع ماء الوضوء.. روحُها تنسج من خيوط الدمع استغاثةً ترفعها لله مع الصلوات... تسأله الآية التي آنستها وأضاءت حياتها... تناشده آياتِ عزٍّ أُهرِقت حروفها في غيابة الجب... وما زالت تفتش عنكِ.. في ابتسامتكِ المعلقة على حائط البيت.. تسأل عنكِ كل الزوايا... وأنتِ في الجب تصرخين.. تنادين... يا أبا صالح أدركنا... و.. يتلألأ الدمع... لحال البحرين أسيرة الظلم... لحال أمةٍ تتنفس القهر مع الهواء... فالوجوه حولها حبلى بالسواد، والدخان يحجب حلماً يختبئ خلف جدائل الشمس العسجدية... والدم.. هو فقط الذي يستفيق على وقع الأشواك كل صباح...

الأربعاء، 16 مارس 2011

همسات.. إليك يا شهيد

أي روحٍ تسكنك؟..
والهواء يداعب صدرك..
يتنفس دفء قلبك...
يروي حكايةً سهمٍ أصاب قلب الحسين...
خطواتك تنقش درب الحسين... وأنصار الحسين...
بحبات تربٍ تكتبك في صفاح الدهر تبرا...
/
أي روحٍ تسكنك؟..
وهمس الملائك في أذنيك ينساب كأنشودة الماء.. مرصعة بجمانات التسبيح..
وأنت تستمع.. بسكينةٍ تجلل وجهك بقطرات النور...
"القوم يسيرون.. والمنايا تسير بهم"...
/
أي روحٍ تسكنك؟..
وجسدك يفترش أرض الوطن
والنجيع منك يترقرق.. يتموسق..
ينسج حكايةً بلون التضحية الجارية في دماء جون.. ووهب.. وحبيب...
حبات الترب تستنطق خلاياك.. تسأل نبضاتك عن أوجاع الوطن..
وكان الجواب... شلال دم...
يسيل مخضِّباً وجه الزمان بدثارٍ أحمر
عله يُنبِتُ وَرداً يفرش درب إمام الزمان.. حين ظهوره..
/
هنيئاً يا شهيد..
أبلغ حسيننا سلامنا..
واسأله أن يدعو لنا...
لتتبرك أقدامنا بتراب درب الشهادة...
ولتنتشي نحورنا بعطر نصرة الحجة..
ولنسكب أرواحنا من بين أصابعنا على كفيه...
ولتجأر معنا ذرات الهواء...
"كلنا نموت بالظما فداك يا حسين"





إليك.. يا شهيد البحرين.. رضا بو حميد..
يا من نحتت خطواتك على أديم الأرض بصماتٍ حسينية..
هنيئاً لك

الثلاثاء، 1 مارس 2011

أشواق خلف قطرات المطر

الْحَنينْ... حِكايةٌ غَضَّةٌ وَإِنْ طَالَ رُقودُها بَيْنَ سُطورِ الْفُؤَاد... حكايةٌ تَخْتَلِجُ لَها فَرائِصُ الرُّوح، وَكُلُّ اخْتِلاجَةٍ تصدَحُ بِأَلحانٍ مُلَوَّنَةٍ بِالوَلاء.. مرصَّعةٍ بِعِشْقِ الْحُسَيْن..



سَيِّدِي.. يا حسينْ.. يا حشاشَةَ فُؤَادي.. يا حَبيباً يُجِيبُ حَبيبَه...



قَدْ ذَابَتْ فِيكَ كُلُّ الْحَكَايا.. وَمَعانيكَ الْبَيْضَاءُ حُلَلٌ مِنْ نُور، قد ارْتَدَتها أَوصالُ الْحُروفِ، لِينسابَ بَرِيقُها كُلَّما سالَ اسْمُكَ طَيْفاً يُنْعِشُ الْمِدادَ والسُّطُورَ...



تُرْبَتُكَ سَماءٌ مُخَضَّبَةٌ بِعِطْرِ مَعِينِك، وَعلى أدِيمِها احتَرفَتِ الرُّوحُ الْإرتِماء...


قُبَّتُكَ دَوْحةٌ تَنُثُّ زَخَّاتِ الأمان.. وتطرحُ بَينَ يَدي الأحزَانِ أَطْيَبَ الثَّمرِ...



جِئْتُكَ يا سيِّدي، أَغْتَسِلُ بِنَدَاكَ الْمُضِيءِ مِنْ بَقايا مُخاتَلةِ الدُّنيا... وَأَشُدُّ تِلكَ الجِراحَ الَّتي نحتَها الزَّمانُ عَلى ذاكِرةِ الْوَجَع... فَأَحِطْني بِغلائلِ حَنانِك، وجَلِّلْني بِأبرادِ جَمالِكَ، فإِنَّني قد أَلْبَسْتُ رُوحي نِسْرينَ حُبِّكَ، وَأَجْنِحَةُ الشَّوْقِ قَدْ حَمَلَتْني مِنَ الأَرضِ إلَى جَنَّةِ الْفِرْدَوسِ، حيثُ يَحلو اللِّقاءٌ، وَيَطِيبُ الْوِصَالُ...



جِئْتُكَ نَوْرَسَةً ذَبيحَةً، مَكسُورةَ الْجَناحَيْنِ، حاسِرَةَ الْقَدَمَيْنِ... أَصْرُخُ دامِعَةَ الْعَينِ "لبيك لبيك أبا عبد الله"... وَ إِلَيكَ - مُذْ رَأَيْتُكَ - رَفَعْتُ جَناحاً مُخَضَّلاً بِتلبِياتِ الروحِ، وَتحايَا عَزَفَتْها أوْتَارُ الْفُؤَادِ حِينَ جِئْتُكَ فُطْرُساً يَلْتَمِسُ مِنْكَ غَيْثاً يُحْيِي مواتِ الخَلايا التي تسكُنُه، وَتُمِضُّ جَناحَهُ الْمُوَشَّى بِآلآمِ الْعُمْرِ وَخَيْباتِ السِّنين...


فَـ إليكَ يا سيدي ضُمَّني.. وامسحْ على رأسي بِأَنامِلَ تَجْلُو شَظَايا اليُتْمِ وَالاِغْتِراب...


بِنَفْسي أنت.. الْقانِي الذي تَشَظَّى مِنْكَ خَلَقَ لِلسَّعادَةِ أَزْهى الألوانِ.. إِذْ قَالَ لَها كُونِي فَكَانَتْ...


بِنَفْسِي أَنْت.. رغم السَّوادِ الذي لَطَّخْنا بِهِ أيْدِيَنا، حَتَّى اسْتَوْطَنَ مِنَّا الْقُلوبَ وَكادَ يَسْتَفْحِلُ في النُّخاعِ، ضَمَمْتَنا إليكَ بِكُلِّ رَحماتِ الكونِ، وَمَحَوْتَ ركامَ السَّوادِ عَنَّا بِفَيْضِ سَناكَ الْعَسَلِيِّ...


أَشْكُرُ ربِّي يا سيِّدِي، ثُمَّ أَشْكُرُكم على هَذا التَّوْفِيقِ... وَأَسْأَلُهُ ثُمَّ أَسْأَلُكُمُ الْقَبُولَ... سَيِّدِي جِئْتُكَ فَاسْقِني مِنْ رَحِيقِكَ كَأْساً رَوِيَّةً، فَلا أَفْقِدُ بَعْدَها مَلامِحَ الضَّوْءِ الَّتي رَسَمَها وِصَالُكَ عَلى قَلْبِي...

وَمَا زِلْتُ لا أَدْري... كَيْفَ تَسَلَّلَتِ الْمَسافَاتُ لِتَصْبَغَ أَنامِلي الْمَمْدودةِ نَحْوَكَ، وَذَرَّاتِ الْهَواءِ القابِعةِ بَيْنَكَ وَبَيْني...

فِرَاقُكَ غُصَّةٌ تَعْتَلِجُ فِي أَوْتارِ الرُّوحِ... وَأَلَمٌ تَلَبَّسَتْهُ حَنايا الْخافِقِ الْمُتَيَّمِ بِكَ...

زيارة الأربعين 1432 هـ